يبدو أن القيادة الأمريكية استعانت بخبرات "هوليود" في التمثيل والإخراج , فخرج لنا فيلم بعنوان (جثة وسط المحيط) , بن لادن قتل رحمه الله وذهب إلى ربه وهو أعلم به , فليس الكلام هنا للدفاع عنه أو تبرير أخطاءه , بل الحديث عن هذه المسرحية الطويلة التي امتدت فصولها لأكثر من عشر سنوات رهيبة للبحث عن رجل واحد , وكانت حصيلة هذا البحث المتواصل ما يلي :
- قتل ملايين الأبرياء في العراق وأفغانستان وباكستان .
- احتلال بلدين من بلدان العالم الإسلامي احتلال كامل . والسيطرة على العالم الإسلامي والتدخل في كل صغيرة وكبيرة, وتغيير الكثير من السياسات والقرارات المصيرية , والتي كان آخرها فصل جنوب السودان عن شماله , وتسليم العراق لإيران , حصار وتجويع مليون ونصف في قطاع غزة وحذف كلمة مقاومة والتي حق مشروع لكل من يعاني الاحتلال واستبدالها بكلمة إرهاب , ودعم الاستيطان اليهودي في فلسطين .
- شن حملات شرسة على الإسلام من خلال دعم كل من يسيء للإسلام , سواءً على شكل رسم كاريكتوري بدعوى حرية الرأي التي تتسع عندما يتعلق الأمر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه , وتضيق عندما يتعلق الأمر بالديانات الأخرى , وكل هذا بدعوى القضاء على التشدد والإرهاب .
قبل أن يُعدم صدام حسين رحمه الله , كان هناك غضب شعبي عليه لأنه شوه صورة القائد العربي "المهيب" اللقب الذي حمله الفارس المناضل ضد الفُرس وحامي البوابة العربية الصامده .
كانت هناك حملة إعلامية شديدة لصرف الأنظار عن هذا القائد الذي وجه فوهة مدافعه إلى جيرانه واحتل دولةً آمنة مطمئنة , وراح ضحية هذه الحرب الكثير من الأبرياء , وقد كادت أن تنجح لولا تلك المحاكمات التي أدت إلى تنفيذ حكم الإعدام فيه , فحولت مسار قصته إلى نهاية بطولية , نسيت معها تلك الشعوب ما فعله صدام لسبب أنه قتل بأيدي نجسه , وقتله ومحاكمته زادت من شعبيته , وغسلت أدران خطيئته في قلوب من نظروا له نظرة المجرم في يوم ما , واعقبوها بنظرة البطل الهمام , حتى أن بعضهم ما زال يشكك في موته إلى اليوم مع أن الرجل مات ودفن وانتهى .
نفس السيناريو يتكرر مع بن لادن اليوم , ربما لأن الأمريكان لهم السبق في حبك الأخبار المكذوبة , لكنها لن تصل إلى أن يقوم رئيس دولتهم بإعلان خبر الوفاة , فلن يعلن عنها إلا وهو متأكد من ذلك , ليس خوفاً من ردة فعل المسلمين , بل لأنه يعرف أن الشعب الأمريكي لن يغفر له الكذبة ,وهم من انتظر هذا الخبر عشر سنين , تلك السنين التي قادت أبناءهم للمعارك في أفغانستان والعراق بحجة "سلاح الدمار الشامل" الذي لم يجدوا له أثر , وسبب للأمريكان حرج شديد أمام أهالي القتلى من الجنود الأمريكان وكأنه ينطبق عليهم المثل (مثل ما رحتي جيتي) , فلم يجدوا السلاح المدمر الذي خبأه صدام , ولم يتحسن اقتصاد بلادهم بنهب ثروات العراق , لأن المال الحرام لا يدوم وما يسرقه الاحتلال من نفط العراق يصرفه على جيوشه ومعداته وعلاج جنوده من مشاكلهم النفسية وجراحهم الجسدية .
يبدو أن بن لادن قد مات منذ زمن وشبع موتاً , ولكن خبر موته ضل سراً من أسرار القيادة الأمريكية , فليس من صالحها أن تعلن وفاته في حينها لأنها تحاول كسب المزيد من الوقت لإنشاء قواعد عسكرية وتحالفات إستراتيجية .
لذلك دفن ما تبقى من رفات بن لادن في هذا الوقت بالذات كان فيلم جديد من أفلام هوليود التي عودتنا عليها , فقد جاء متزامناً مع تفجيرات المغرب , ومتزامناً مع مسرحية سوريا ضد شعبها الأعزل , فالبطل الأمريكي الذي يخترق جسده 100 رصاصة أو أكثر , يقف لوحده ليدمر جيشاً من المعتدين كلهم يموتون ويبقى هو حي يرزق , لأنه أمريكي والأمريكي لا يموت , وفي هذه العملية التي لم تستغرق 40 دقيقة , واستخدموا فيها قوات أرضية وطائرات عمودية ثم تكون الحصيلة ثلاثة قتلى فقط وهؤلاء الثلاثة ليس بينهم أمريكي رجلان وامرأة فالرواية الأمريكية لا تكتمل إلا بوجود النساء تحقيقاً لمبدا المساواة حتى في القتل , وتتحطم هذه الطائرة التي لم نشاهد بقاياها , ويبقى المنزل ثابت كما هو لم يتغير ولم يخترقه الرصاص ولم ينهار أو يحترق من تحطم المروحية على رأسه , وتكون النتيجة جثة مدفونة حسب الشريعة الإسلامية في جوف ظلمات البحر , وهم يعرفون أننا كمسلمين ندفن موتانا في التراب وليس الماء "إلا في حالات كأن يموت المسلم وهو على ظهر السفينة", ومما زاد الأمر طرافة أن أحد المحللين المسلمين يبرر لأمريكا دفن الجثة في الماء فيقول (دفنوه في البحر حتى لا يستخدم قبره مزاراً) دائماً ما تفعل أمريكا أفعاليها وتترك التبرير لنا فنحن العرب عباقرة التبرير , وعبارة الدفن لا تستخدم إلا في الأشياء الصلبة لأنها تأتي بعد الحفر ولكن في البحر لا يقال "دُفن" بل "ألقي" , وأمريكا دفنتها كذبتها التي استخدمتها كوسيلة ضغط من جهة , وكوسيلة إلهاء لشعبها المسكين , فكلما طالبوا بعودة أبناءهم من الحرب لوحوا لهم بصورة بن لادن , وكلما طالبوا بتحسين اقتصادهم وتوظيفهم قالوا لهم نحن في حالة دفاع عن "الولايات المتحدة الأمريكية" .
رحل بن لادن فهل سترحل معه كل تلك الحكايات والألغاز المستخدمة لتجفيف منابع الدعوة الإسلامية في دول العالم , وهل ستعود جمعيات الإغاثة التي كانت باباً من أبواب الخير لدولنا الإسلامية , لأنها كانت سداً منيعاً في وجه جمعيات التبشير التي حلت محلها .
رحل بن لادن فهل سيريحنا الغرب ويتركنا نعيش ونحن نفخر بديننا وعروبتنا ونمارس حريتنا الدينية بدون أن يحارب النقاب بتهمة الإرهاب , ويحارب المسجد بتهمة الإرهاب , وتحارب الجمعيات الخيرية بتهمة الإرهاب. ويحرق القرآن لأنه يدعوا للإرهاب .
الآن الغرب قتل صدام حسين وزالت عنا تهمة أن يكون بيننا دولة عربية تملك "سلاح نووي" لأننا نؤمن بمقولة "رحم الله امرؤ عرف قدر نفسه" ونحن لم نصنع إلى يومنا طائرة عربية أو دبابة حتى نصنع سلاح نووي لنهدد به ابنة أمريكا المدللة إسرائيل , صنعنا سلاح نووي من خصور الراقصات فخرجت أجيال لا تعرف إلا الرقص لذلك الخوف من سلاحنا النووي غير مبرر, ومات بن لادن وماتت معه كذبة الرجل الذي يحرك الإرهاب , فإن حصل زلزال في اليابان فإن السبب تنظيم القاعدة , وإن ماتت قطة في واشنطن فالقاعدة هي المسئولة , ولأننا شعوب أتقنت الصمت فقد حملونا وزر النوايا والبلايا أيضاً, لكن ما أخشاه بعد موت بن لادن أن يصنع لنا الأمريكان مستقبلاً "بن لادن" آخر ليكون فزاعة سبتمبرية أو إبريلية جديدة, لأن بن لادن القديم كان وسيلة ضغط على قيادات ما قبل الثورات العربية , ولم يعد يصلح لقيادات ما بعد الثورات , لأن الشعوب أصبحت أكثر وعياً , وأكثر نضجاً , لو كانت حيلة الإرهاب تنفع لنفعت مع بشار ومعمر فما زال الدكتور والأعرابي يتصوران أن الشعوب المحبطة ما زالت تحت تأثير حبة البندول .
من إيميلي