ماذا تفعل عند الثامنة؟
الجمعة 08 محرم 1431 الموافق 25 ديسمبر 2009
د. ديمة طارق طهبوب
كان تحلُّق الأبناء و الأحفاد حول التلفاز لساعات طوال، مع حالة من البكم التام، و استهلاك الطعام والمكسرات ما يغيظ جدتي العجوز، التي كانت تحن لدفء العائلة و أحاديث الصباح و المساء. جدتي التي لم يغير عادتها في النوم المبكر وجود خمسمائة قناة على تلفازها. كنا نمازحها قائلين: مساكين!! كيف كنتم تعيشون من غير تلفاز، و تنامون كالدجاج في أول الليل، و تستيقظون فجراً مع صياح الديك؟!
كانت تفخر و تتيه علينا قائلة: كنا أكثر نشاطاً، و أعظم إنجازاً، و أكثر عيالاً، و أرق قلوباً، و أوصل رحماً، وأنتم أكثر تنبلة، و أقل حركة، و أثقل أوزاناً، و أقسى أفئدة!! قطّاعين للرحم، مقطوعين من الذرية؛ لأنكم لا تخصصون وقتاً للتفكير و العمل على الإنجاب، فهل كانت الجدة العجوز، التي كان سماع الحكواتي أكبر أحلامها، أكثر حضارية؟ و هل نحن- جيل التلفاز و الإنترنت- أكثر تخلّفاً؟
ليس من حضارة و أمة تحترم نفسها، سواء أكانت قواعدها دينية أو علمانية، إلاّ و قد جعلت من الحفاظ على وقتها و استغلاله أولوية كبرى في حياتها، و ما انتكست الأمم، و أمتنا الإسلامية تحديداً، إلاّ بعد أن شاع فيها ما يُسمّى "بقتل الوقت بالتسلية و الترفيه"!!
تعلمنا في المدارس القول المشهور لبنجامين فرانكلين-أحد الرؤوساء المؤسسين للولايات المتحدة- و الذي يؤكد على ضرورة وجود جدول في حياة الإنسان يحدّد مواعيد نومه و استيقاظه لتنتظم الحياة فيما بينهما، و هو:
Early to bed, early to rise makes a man healthy, wealthy and wise
و ترجمته العامية تقول: "نام بكير و اصحى بكير و شوف الصحة كيف بتصير!"، و المثل الإنجليزي يضيف على العربي زيادة في الثروة و الحكمة كفوائد أخرى للنوم و الاستيقاظ المبكر.
ولقد اهتم الإسلام و اهتمت الحضارة الإسلامية بمتوالية الليل و النهار، و جعلا التفكر فيهما آية لأصحاب العقول، و جعْلهما وقتاً مستغلاً للعمل و الراحة. و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "بورك لأمتي في بكورها"، و خصص أوقات الفجر كأفضل أوقات الذكر و العمل، و أثبتت الدراسات الحديثة أن العقل يزداد نشاطا في الصباح الباكر لصفاء الجو، و انبعاث الغازات المفيدة لصحة الإنسان و التي لم يعكرها بعد دخان السيارات و المصانع، و جاء في المثل: عند الصباح يمدح القوم السُرى.
أما الليل فرابطه بالنهار وثيق، و هو كذلك مزرعة الأعمال و الحسنات؛ فقد روي عن سعد بن أبي وقاص قوله: إني لأحتسب (أي أطلب الثواب) في نومتي كما أحتسب في قومتي، و مُدح الصالحون بأنهم كانوا رهباناً متعبدين في الليل فرساناً، و عاملين في النهار، و مُدح فصل الشتاء بوصفه ربيع المؤمن؛ إذ يقصر النهار فيسهل على المرء الصيام، و يطول ليله فيشجع على القيام و التهجد.
ولكن هذه الثقافة النظامية المنتجة لم يعد لها روّاد و طُلاّب؛ فالسهر ليلاً و التأخر في النوم نهاراً أصبح ديدن كثير من الشباب العرب، و يا ليته كان سهراً محمود العواقب و الأثر، و لكن معظمه في التلهي و التسكّع و البطالة، و أصبحنا نفاخر بعواصمنا التي لا تنام، و يا ليتها كانت لا تنام انشغالاً بالعلم أو الصناعة أو الأدب، و لكنها لا تنام في المراقص و الملاهي و أمام شاشات الكمبيوتر و التلفزة؛ فمفرخة القنوات الفضائية تنتج كل يوم قناة جديدة مجانية أو مدفوعة الأجر، مع أن كلها مدفوعة الأجر من أعمارنا قبل جيوبنا!!
لقد ذكرت دراسة اعلامية أن معدل مشاهدة نشرات الأخبار في الوطن العربي لا يزيد عن نصف ساعة، ثم يمضي العرب لياليهم في التنقل ما بين القناة الأولى و الرابعة لإحدى الفضائيات المشهورة و التي تقدم لنا إنتاج الغريب و القريب دون غربلة و انتقاء.
أصبحنا ننام بالنهار فنضيع الأعمال و الإنجاز، و نسهر بالليل فنأتي على ما بقي من الصحة و المال و الإيمان، و هذه السلوكات لا دخل لها بالفساد و الحكومة و هرم السلطة! هذه ممارساتنا الشخصية التي يقع على عاتقنا إصلاحها، و ليس كل اللوم دائماً على الرؤوس الكبيرة؛ فنحن الذين نملك قرار إغلاق التلفاز و وضع المنبه للاستيقاظ باكراً، و الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، و ولاتنا مثلنا، و لو كنا أفضل لتولانا أصحاب الفضل!
إن الدول الكبرى التي تُعنى بحقوق الإنسان و صحته و راحته لا تفصّل قوانينها على الأهواء و الممارسات الخاطئة؛ ففي الغرب يبدأ الدوام في الثامنة أو التاسعة، و يعمل الموظفون بإنتاجية عالية لثماني ساعات، ثم بقية يومهم لهم، و إن كانت ثقافة المجتمع تشجع أيضاً على العمل التطوعي في أوقات الفراغ، و لكنهم لا يؤخرون حياتهم حتى يستقيظ من نومه من نام أمام التلفاز أو على لوحة المفاتيح أو حتى نام مخموراً!! الكل يجب أن يكون على رأس عمله في بداية الدوام كالجندي في وحدته و لا عذر لأحد.
أما نحن فأصغر شيء يؤدي إلى اضطراب حياتنا الليلية و النهارية: الحر و البرد، الصيام، الاحتفلات و الاستقبالات، جنون البقر، انفلونزا الطيور و الخنازير، الزواج، الميلاد، الوفاة.. كل شيء و أي شيء..!!
كتب الإسرائيلي (عاموس عوز) على لسان الرواي في كتابه "بكائيات أحد قداس الصهيونيين": "أخرج إلى العمل في الرابعة أو الخامسة صباحاً، في هذه الساعة تصبح الدولة عربية، من دان إلى إيلات، العرب يبكرون إلى العمل و اليهود يواصلون النوم، عندما كنت شرطياً زمن الانتداب، كان حلمي أن نقيم دولة عبرية دون بوليس و لا سجون، و أن نكون حقاً شعب الله المختار! لماذا تحوّلنا إلى شعب من السماسرة و الحرامية و الشحادين و الطفيليين و المجرمين و الغاصبين؟! ماذا حدث لنا؟ ربما أننا فقدنا أخلاقنا على الطريق، و ربما حدث لنا هذا بسبب حروبنا التي جلبت لنا الأموال الأمريكية الرخيصة، إنها تنتقل إلينا كالأوبئة، الدولة فقيرة و المواطنون أغنياء يتطلعون إلى المستقبل بشراهة!! كلهم يشترون و يبيعون، و يبيعون و يشترون الأراضي و أسهم البورصة، يزنون، يطلقون نساءهم و ينجبون الأطفال، ثم يرمونهم في صناديق القمامة لكي لا يزعجوهم في لهوهم و سهرهم"!!
لقد أصبحنا مثل أعدائنا فانتصروا علينا بقوتهم، و هو واقع الحال!!
إذن...قل لي ماذا تفعل عند الثامنة صباحاً و مساءً أقل لك من أنت... !!
الإسلام اليوم