بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور رياض بن محمد المسيميريالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فحين تنادي الغيورون بضرورة صنع شيء ما يقاومون من خلاله البطش الصليبي الغاشم ؛ لم يجدوا أفضل وأنكأ من " مقاطعة بضاعة العدو" بيعاً وشراءً لمعرفتهم ما يمثله هذا الإجراء المؤثر من إصابة في الصميم لمعبودهم المقدس" الدولار" والذي يشكل في حس المواطن الصليبي هناك كل حياته وسعادته والتي يضحى من أجلها بأبويه وولديه وشرفه وعرضه , في سبيل الظفر به!! .
وكانت فكرة المقاطعة امتحان واقعي جيد لإرادة الجماهير المسلمة ومدى قدرتها على التضحية في سبيل مبادئها العليا وثوابتها الراسخة . كما كانت الفكرة كذلك اختبار فيه جدة وجدية لعواطف الشعوب ومصداقيتها وهي التي ظلت دائماً وأبداً تضع اللوم على أصحاب القرار دون أن تظهر اعترافات ذات بال بأنها تشارك إلى حد ما في ولادة مشاكلها واستمرار مصائبها وفشو أوجاعها المزمنة!! .
وقد اجتهد البعض فوضع قوائم لجملة من المنتجات الوافدة ووضع إزائها البديل من المنتج المحلي أو العالمي إلا أنّ التجاوب والتفاعل مع هذه الأفكار الجريئة ظل بين مدّ وجزر ، وبين مُشجع ومُخذل, ومُقدم ومُحجم!
وساد لدى البعض هاجس من الشك حول جدوى هذا الأسلوب ومدى فاعليته وتأثيره؛ كما تردد آخرون في مبدأ الإقدام خوفاً من فضيحة الانسحاب في منتصف الطريق!!
أما أكثر الأطراف سلبية فهم أولئك العاجزون عن مقاومة إغراء الجودة وعقدة التفوق للمنتج الأمريكي فضلاً عن كون المقاطعة ستحرمهم من منتجات اعتادوها وألفوها منذ نعومة أظفارهم ولم يخطر ببال أحدهم أنه سيطالب يوماً ما بمقاطعتها إلى غير رجعة !!
وهذه السطور محاولة لتفعيل الفكرة بحسب الإمكان وبث بعض الأفكار والرؤى حولها أملاً في تحقيق نجاح معقول من ورائها!! .
أولاً : لا يماري أحد أنّ الولايات المتحدة واحدة من أغنى دول العالم وأقواها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ولا يشك أحد أن ترسانتها العسكرية التي من خلالها تمارس نفوذها وسيطرتها على الأمم والشعوب إنما ساهم في صنعها وكثافتها سعة ثرائها وامتلاء خزينتها بفضل إنتاجها المذهل, وصادراتها الهائلة، ولا ريب أنّ الدول الإسلامية بالذات تعد أسواقاً مثالية للبضائع والمنتجات الأمريكية ابتداء من البيبسي كولا ووجبات الهامبورجر ومروراً بسيارات الفورد وال GMC وانتهاءً بطائرات الجامبو والأواكس والإف 15 !!
ومعلوم تلك الأرقام الفلكية التي تدفع مقابل هذا الواردات الضخمة والتي تضخ في الخزانة الأمريكية دون توقف!! .
وأحسب أنّ ما تدفعه الشعوب – بمحض إرادتها – يفوق الكثير مما تدفعه الدول لقاء صفقات الأسلحة أو إزاء تأمين طائرات الركاب المدينة!!
فعلى سبيل المثال فإن صناعة السيارات والأجهزة والملابس والأطعمة التي تستهلكها الشعوب الإسلامية والتي تقدر بمليارات الدولارات تضخ في خزينة الشركات الأمريكية الصليبية الحاقدة .
ثانياً : من المعلوم أنّه في عالم الاقتصاديات الضخمة تتشابك المصالح , وتتعقد الروابط بين أصحاب رؤوس الأموال, وأرباب الشركات بحيث أنّ اهتزاز شركة ما أو إفلاسها سيؤدي إلى آثار سلبية أكيدة على الشركات الأخرى ، وبعض تلك الآثار آني الحدوث, وبعضها متوسط, وبعضها متأخر لكنه حتمي الوجود!! .
فعلى سبيل المثال لو أنّ شركة أمريكية ما تنتج أقلاماً للكتابة وتستخدم 1000 عامل فهي بموجب القانون مضطرة لدفع التأمين الصحي لشركة أخرى وهي كذلك محتاجة إلى شراء ملابس لعمالها من شركة ثانية, ولا بد أن تطلب من شركة ثالثة أن توفر لها حافلات لنقل عمالها من وإلى مقر العمل ,وهي كذلك مجبورة على تأمين سكن ملائم لهم, لذا كان لا بد من إبرام عقد استئجار مبني أو شراءه.
ولا ننسى ساعة الغداء وما تتطلبه من تجهيز صالة للطعام وإبرام عقد مع إحدى شركات التغذية لتشغيله والإشراف عليه فهذه ست أو سبع شركات لها مصالحها وعقودها مع الشركة محل المثال وضربت صفحاً عن الاسترسال اختصاراً!! فلنفرض الآن أنّ شركة الأقلام هذه فقدت 50% من الأسواق المستهلكة نتيجة المقاطعة الشعبية الإسلامية فما النتيجة ؟ !ّ
النتيجة أنها ستفقد نصف أرباحها, وبالتالي ستسرح نصف عمالها, وستخفض التعامل مع شركة التأمين الصحي إلى 50 % وستقلل من شراء الملابس لعمالها من الشركة الثانية إلى النصف , وهكذا إلى آخر شركة تتعامل معها!!
وكل شركة ستقوم بنفس الأجراء مع الشركات التي تتعامل معها في تسلسل عجيب أشبه ما يكون بسقوط مبنى التجارة العالمية حيث سقط كل طابق على الذي تحته حتى سقط المبني بأكمله وأصبح كومة من التراب المتفحم والحديد المهترئ !!
ثالثاً : لا ينبغي أن يغيب عن البال أنّ الكساد الذي سيصيب الشركات المنتجة والمصدرة سيعود سلباً على حجم الضرائب المدفوعة قصراً للحكومة الفدرالية فضلاً عن عشرات الألوف من الموظفين والعمالة المسرحين في الشوارع ، والذين سيشكلون عبئاً ثقيلاً على ميزانية الضمان الاجتماعي أو إضافة جديدة لقائمة اللصوص وتجار المخدرات ، أو قنابل موقوتة تنتظر لحظة الانتقام من المجتمع الأناني فاقد الرحمة !!
ولا يزال الراصدون يذكرون الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أصابت الأسواق الغربية في مقتل إبان الثلاثينات الميلادية والتي عرفت باسم (الكساد الكبير) وظلت تمثل إلى اليوم كابوساً مخيفاً لأرباب رؤوس الأموال لا يطيقون له ذكراً ! !
رابعاً : آلية المقاطعة :
إنّ ممّا يساهم في نجاح المقاطعة هو الواقعية في تنفيذها فليس من المعقول أن نقاطع ما لا بد منه أو نسرف في شراء كل شيء بحجة أنه مباح مع وجود البديل المماثل بل والأفضل فكلا طرفي قصد الأمور ذميم . فالأحوال إذاً كما يلي:
- هناك من الناس من يقوي على مقاطعة كل منتج مستورد , ابتداء كما أسلفت من المشروبات الغازية, ومروراً بالوجبات السريعة و البيتزاهت وعروجاً على الملابس, وانتهاءً بالسيارات فمن وجد لدى نفسه الحماسة الكافية والإصرار الأكيد على الاستغناء عن كل ما ذكر فحسن فعل, ولا ينبغي تخذيله أو توهين عزيمته, ) !
- هناك فئة أخرى قادرة على الاستغناء عن بعض المنتجات لكنها لا تقوى على مقاطعة بضائع معينة و أصناف محددة فيقال: ما لا يدرك كله لا يترك جله فقاطعوا ما استطعتم وأعانكم الله فيما عجزتم .
- هناك فئة أخرى بلغت من السلبية درجتها القصوى وعجزت كبح جماح رغبتها وأهوائها؛ فتُجادل بالتي هي أحسن دون تثريب أو تجريح فلا ينبغي أن تكون فكرة المقاطعة سبباً في (القطيعة !!) أو إذكاء نار العداوة بين أبناء الأمة الواحدة, وحتى لا يستفيد العدو الكافر من حيث أردنا خسارته !!
خامساً : يستعجل البعض النتائج, ويستشرف الآثار في الحال, ويظن أن مقاطعة أمبروطوريات عريضة من رؤوس الأموال والشركات الضخمة سيؤدي إلى انهيارها في ظرف شهر أو شهرين, أو السنة والسنتين ، وهو ظن خاطئ لا يعرف الأناة والتريث , وموغل في التفاؤل إلى حد غير مقبول !!
والحق في هذا الصدد أنّ الثمار اليانعة قد لا يتأتى قطفها إلا بعد سنوات من القطيعة الجادة, وربما يتطلب الأمر تعاقب أكثر من جيل, لكنها حتمية الوقوع بإذن الله تعالى!! .
وماذا يضيرنا أن يتحقق المقصود على أيدينا, أو على أيدي الجيل الذي يلينا, وأجرنا وأجرهم على الله ؟ ّ!
سادساً : ينبغي لإنجاح المقاطعة بث الوعي في المجتمع؛ بكثرة الطرح والطرق لهذا الموضوع الهام ، من خلال الجلسات العائلية ، والجلسات الشبابية ، والمجالس العلمية, مع الحرص التام على سلامة الصدور, وألا يكون وجود بعض الأصوات المخالفة أو المخذلة سبباً في شيوع اليأس من النجاح ,أو إعاقة المسيرة فيجب أن نتوقع كل شيء..
يجب أن ننتظر بكل تأكيد تلك الأصوات النشاز من مخذلين ومعوقين ومراهنين على الفشل, أو على الأقل تحقيق نجاح محدود, وإذا ظننا بأننا سنلقى تجاوباً مثالياً من الجميع؛ فهذا إيغال في الخيال وإسراف في التفاؤل, أتخوف من نتائجه العكسية على أنصار الفكرة !!.
ولا ينبغي أن ننسى طبيعة مجتمعاتنا المترفة, ونمط العيش السائد لدى الأكثرية, والذين تعودوا أن يجدوا كل شيء متوفراً- بحمد الله- فأصابهم ذلك بالخمول والدعة ، والإخلاد إلى ملذات الدنيا, حتى لم يعودوا قادرين على الزهد ببعض الكماليات ، إلى بدائل ربما تفوقها ترفاً وجودة ، والله المستعان .
ومما يساهم في نجاح فكرة المقاطعة, تشجيع التجار والمحلات التجارية التي لا تبيع المنتجات المزمع مقاطعتها والتواصي بذلك في كل مكان ، ومخاطبة التجار والمستوردين كي يحدوا من متاجرتهم ببضائع الأمريكان فالكلمة الصادقة ، والموعظة الحسنة تفعل الأعاجيب ، وقد خوطبوا من قبل بعدم بيع الدخان والمجلات الفاسدة ؛ فاستجاب الكثيرون فلم يعد غريباً أن تقرأ إعلاناً بارزاً على واجهة المحلات التجارية كتب فيه عبارة (لا نبيع السجائر) .
وأخيراً
فالمقاطعة هي اختبار حقيقي ومحك قوي لإرادة الشعوب والأفراد يتبين من خلالها مدى مصداقية وغيرة هؤلاء على دينهم ، ونصرتهم لقضايا أمتهم فالشعوب والأفراد الذين كانوا إلى عهد قريب يلقون بمسؤولية انتكاسة الأمة وخمولها على غيرهم, ويحملونهم كل جريرة وخطأ.
قد آن أوانهم الآن للقيام بدور عملي ميسور من خلال المقاطعة للكشف عن أصالة معدنهم ، ونضوج فكرهم ، وجاهزيتهم للبذل والتضحية فهل يفعلون ؟؟.