[mark=#3333CC]
سيجعل الله بعد عُسرٍ يُسرا[/mark]
الحمد لله المتفرد بصفات الكمال والموصوف بذات الجلال الذي دان كل شيء لعظمته وخضع وسجد كل مخلوق له وركع ، مالك المُلك تؤتي المُلك من تشاء وتنزع المُلك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين حجة للناس أجمعين أدى الأمانة وبلّغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاد وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقوع البلاء في الدنيا :-
لما كانت الدنيا دار امتحان ومشقة وتعب ، دار ابتلاء وكدَ ونصب ، كانت البلايا والمصائب صفات أساسية توجد ما وُجدت الدنيا ، ولا تنقطع المصائب والمشقة إلا في دار النعيم ( لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ )[فاطر : 35] أما الدنيا ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) البقرة/155.
صور البلاء في الدنيا كثيرة ومن رحمة الله بنا أنه حتى عند نزول البلاء يبلي بما يُستطاع تحمله فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وليس كل بلاء هو عقوبة من الله بل قد يكون البلاء تكفير للذنوب أو رفعة للمنزلة ، لذا فان أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الصالحين ويُبتلى المرء على قدر إيمانه.
أستهُزئ بنوح وغرق ولده أمام عينه ، وأُلقي في النار إبراهيم ، وتجهز للذبح إسماعيل ، ونُشر زكريا بالمناشير ، وقُطع رأس يحي ، وطُرد موسى وعاده فرعون ، وذهب نور عيني يعقوب ، وبيع يوسف بثمن بخس دراهم معدودة وأُلقي في السجن بضع سنين ، وساح في الأرض عيسى بلا مأوى ، وأما محمد فعاده قومه وأُخرج من بلده ومات أحبابه وقُتل أصحابه وأرادوا النيل من عرضه ، وحاولوا غير مرة قتله ، وعانى الفقر والجوع وأنواع البلاء.
الكل مصاب :-
ذكر أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدّثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لمّا رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضا شديدا, فلمّا أشفق أن يموت كتب إلى أمه: يا أماه اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه, ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة, واعلمي هل وجدت لشيء قرارا باقيا, وخيالا دائما, إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني.قال: فلما وصل كتابه صنعت طعاما, وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة.فلم يأكلوا, فعلمت ما أراد, فقالت: من يبلّغك عني أنك وعظتني فاتعظت, وعزّيتني فتعزّيت, فعليك السلام حيّا وميّتا.
أراد ذو القرنين رحمه الله أن يهون على أمه المصيبة بفراقه عن الدنيا وموت الولد من أشد المصائب على الأم وأعظمها فأوصاها بهذه الوصية ليذكرها أن كل الناس مصاب فلتصبر إذن.
أين مصيبتك ؟ :-
كل بلوى تصيب العبد عافية ********** إلا البلاء الذي يؤدي إلى النار
ذاك البلاء الذي ما فيه عافية *********** من البلاء ولا ستر من العار
ما دامت الدار دار إبتلاء وما دام كل إنسان يأتيه حظه من المصائب في دنياه فالذي يعنينا حقاً أين المصيبة ؟
فإن كانت المصيبة في الدين بالبعد عن الطاعات والانغماس في المعاصي والشهوات والانحراف عن طريق الاستقامة وسبيل رب البريات فإنها هي المصيبة فعلاً ، وإن كانت المصيبة في غير الدين فأحمد ربك أن عافاك في دينك فكل مصيبة تهون إلا مصيبة الدين ، فهل الجاه والمال والعمل .. والدار والوالد والولد .. أحب وأهم وأغلى وأقرب إليك أم الله ؟
في البلاء خير :-
نعم في البلاء خير .. لما يقع البلاء وتدرك أنه بقدر الله وترضى وتصبر فأنت تحقق صورة من صورة الإيمان بالله وهي الإيمان بالقدر خيره وشره ، قال تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )[الحج : 11].
نعم في البلاء خير .. فهو يجبرك على الرجوع لله ، يضطرك لرفع يديك للعلي القدير السميع المجيب فتتذلل له وتجتهد في الطاعات علك تكسب رحمته ( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ )[الأنعام : 63].
نعم في البلاء خير .. فأحمد الله أن ما وقع بك من بلاء أهون مما أصاب غيرك ، وأن ما جاءك لم يُزاد فيه عليك ، وأشكر الله على نعم لم تلقى لها بالاً في الماضي كالصحة والعافية.
نعم في البلاء خير .. فهو سبب لتكفير الذنوب والخطايا وما أحوجنا لمكفرات الذنوب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) رواه الترمذي.
نعم في البلاء خير .. فهو فرصة للتواضع فكم من الناس أغتر بنعم الله عليه وظن أنه أوتي هذه النعم بفضل ذكائه وعقله وعلمه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) فلما تأتي الابتلاءات ويجد الإنسان نفسه ضعيفاً ذليلاً بين يدي ربه عندها يدرك ضآلة حجمه الحقيقي ويُدرك أنه لا حول له ولا قوة.
نعم في البلاء خير .. فهو يقوي العزيمة ويبني الرجال ويأتي بالتمكين في الأرض ويهون الدنيا في ناظريك ويجعلك تشتاق للجنة.
أبشر بفرج قريب :-
ولرب ضائقة يضيق لها الفتى وعند الله منهـــــــا المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت وكان يظنها لا تفرج
أبشر بفرج قريب فإن ما وقع عليك ما هو إلا اختبار لتعود وتقترب أكثر لطريق الله القويم ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[السجدة : 21] وليس المراد البلاء نفسه فإن الله لم يخلقنا ليعذبنا (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً )[النساء : 147] لذا لا تقنط من رحمة ربك ولا تسئ الظن به سبحانه وتفائل بالخير في كل أمر وفي أحلك الظروف ، فالليل الطويل الأسود يطلع من بعده فجر جميل والضيق الشديد حتماً بعده سعة وما اشتدت أزمة حتى انفرجت.
ضُيق على نبي الله وصحابته في الشِعب حتى أكلوا ورق الشجر فما هي إلا سنوات ويدخلوا مكة فاتحين بنصر الله ، ولبث يُوسف في سجن ضيق مظلم بضع سنين فخرج منه وزيراً على خزائن مصر أمين ، ولاقى أيوب شدة المرض وموت الولد وضياع المال فلما صبر كانت العافية جزاء وأوتي أهله ومثلهم معهم.
الرضا :-
البلاء واقع واقع فلما تجزع ولا تصبر ؟ ولما تسخط على قدر الله وفيه خير ؟! ، قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ "رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني. فأرضى عن الله وقضائه يرضى عنك ، وتذكر إنه يحبك حتى وإن ابتلاك فلا تنقطع عن شكره في السراء والضراء ولا تمتنع لحظة أن ترضى عنه فتنحرم من رضائه في الدنيا والآخرة ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن صحيح).
كانت هذه كلماتي أصبر بها نفسي وكل مصاب ، علها تُـعيننا في الصبر على القضاء والرضى به وتُذكرنا باللجوء إلى الله دوماً وأبدا وتُذكرنا أنه يقيناً سيجعل الله بعد عُسرٍ يسرا.
والله أسأل أن يجعل هذه الكلمات لنا ولكم زاداً إلى حُسن المصير إليه وعتاداً إلى يُمن القدوم عليه إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.