السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. خالد سعد النجار
ما زال العلمانيون والليبراليون يكيلون التهمة تلو التهمة للمشروع الإسلامي المعاصر، في خضم عملية رفض تام لكل أبعاده ورموزه، ومن أبرز افتراءاتهم مسألة «تسييس المنبر» وتطرق المساجد للأحداث الحياتية اليومية، في محاولة منهم لفصل المشروع الإسلامي عن جماهيره وقاعدته الشعبية العريضة، والتأكيد من قبلهم على قناعتهم بأن الدين ينبغي أن ينحسر كلية عن كافة مناحي الحياة وينحصر في المساجد فقط في صورة عبادة بحته بين العبد وربه، رافعين شعارهم الشهير: «الدين لله والوطن للجميع».
كل هذا الهجوم في الوقت الذي كان فيه المنبر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتناول كافة المواضيع التي تتعلق بالمجتمع والأمة، ويناقش كافة مشاكل المسلمين على مر العصور وفق صحيح الكتاب والسنة وضوابط الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن المنبر الإسلامي كان ـ ومازال ـ مصدر إشعاع فكري وحضاري للأمة الإسلامية، ومن رحمه خرجت الإصلاحات والانتقادات والتوجيهات، وما زالت كتب السنة عامرة بالمواقف النبوية الخالدة التي انبلجت من فوق المنبر الرسولي ومن غيره على مر العصور؛ لذلك أحببت في هذه الأسطر أن أسرد طرفا من هذه المواقف الناصعة التي تبرهن على فعالية المنبر في توجيه الأمة ودورة كمنارة هادية إلى سواء السبيل.
- عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: إني لقائم عند المنبر، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ قال بعض أهل المسجد: يا رسول الله، حبس المطر، وهلكت المواشي، فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وما نرى في السماء من سحاب، فألف الله بين السحاب، فوثبنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله. قال: فمطرنا سبعا لا ننقطع حتى الجمعة الثانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال بعض القوم: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وحبس السفار، فادع الله أن يرفعها عنا. فرفع يديه يقول: (اللهم حوالينا، ولا علينا) فتفرق ما فوق رؤوسنا منها حتى كان في الليل يمطر ما حولنا، ولا نمطر)(رواه مسلم)
- عن طارق بن عبد الله المحاربي: دخلنا المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: (يا أيها الناس، يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك)، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلان في الجاهلية فخذ لنا بثأرنا، قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، فقال: (ألا لا تجني أم على ولد، ألا لا تجني أم على ولد، ألا لا تجني أم على ولد). (قال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن: له شواهد ترفعه إلى درجة الحسن).
- عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: اشترت عائشة – رضي الله عنها- بريرة من الأنصار لتعتقها واشترطوا أن تجعل لهم ولاءها فشرطت ذلك، فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الولاء لمن أعتق.. ثم صعد المنبر، فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله)(متفق عليه)
- عن عِيسَى بْنُ أَبِي سَبْرَةَ مَوْلًى لِقُرَيْشٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي سَاعَةٍ لا صَلاةَ فِيهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ سَاكِتًا، فَتَدَاعَى النَّاسُ لِخُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كَثُرَ النَّاسُ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُ لا صَلاةَ إِلا بِوُضُوءٍ، وَلا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، أَلا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِي مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقَّ الأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ)(الآحاد والمثاني، أبو بكر الشيباني:873)
- عن أنس بن مالك رَضِيَ الله تعالى عنه قال: .. فبايع الناس أبا بكر الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر بيعة العام. (الآحاد والمثاني، أبو بكر الشيباني:19)
- عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قام على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس من حل فلاة من الأرض، فحاج بيت الله، والمعتمر، وابن السبيل أحق بالظل، ولا تحجروا على الناس الأرض». (أخبار مكة للفاكهي، 2/486)
- عن أبي عثمان النهدي سمعت عمر بن الخطاب يقول وهو على المنبر, منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, أكثر من أصابعي هذه: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم, قال: وكيف يكون منافق عليم يا أمير المؤمنين؟ قال: عالم اللسان جاهل القلب والعمل. (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البوصيري:7082)
- عن سعيد بن المسيب: أنه سمع عثمان بن عفان على المنبر، يقول: كنت أنطلق فأبتاع التمر فأكتاله في أوعيتهم، ثم أهبط به إلى السوق فأقول: فيه كذا وكذا مكيلة، فآخذ ربحي وأتخلى بينهم وبين ما يبقى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا عثمان، إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل. (السابق 2/2768)
- عن زيد بن وهب قال: كان عمار بن ياسر ولع بقريش وولعت به فغدوا عليه فضربوه فخرج عثمان مغضبا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس ما لي ولقريش فعل الله بقريش وفعل عدوا على رجل فضربوه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية. (رواه أبو يعلى الموصلي)