ثانياً : ما الواجب علينا اتجاه علمائنا :
1- أن نحفظ للعلماء مكانتهم و فاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدب معهم :
إن في معاملة السلف لعلمائهم لقدوةً لنا ، يجب الإقتداء بها ن وإن فيما سطّروه من بيان ٍ لآداب طالب لنوراً ، ينبغي لشُداةِ العلم أن يستنيروا به في طريق الطلب .
قال العراقي: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء ).
وقال ابن الشافعي: ( ما سمعت أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته ).
وقال يحيى بن معين: ( الذي يحدث في بالبلد وفيها من هو أولى منه بالتحديث فهو أحمق ).
وقال الصُّعلوكيّ: ( من قال لشيخه: لم - على سبيل الاستهزاء - لم يفلح أبدا ).
وتأدب ابن عباس – رضي الله عنه - مع عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه - حيث مكث سنة يريد أن يسأله عن مسألة من مسائل العلم ، فلم يفعل .
وقال طاووس بن كيسان : ( من السُّنة أن يُوقر العالمُ ).
وقال الزهري : ( كان سلمةَ يماري ابن عباس ؛ فحُرم بذلك علماً كثيراً ).
وقال البخاري : ( ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين ).
وقال المغيرة: ( كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير ).
وقال عطاء بن أبي رباح : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنُصت له كأني لم أسمعه أبداً . وقد سمعته قبل أن يولد ).
وقال الشافعي: ( ما ناظرت أحداً قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه).
ذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد بن حنبل - وكان متكئاً من علة - فاستوى جالساً وقال لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ .
وقال الجزري: ( ما خاصم ورع قط ) .
وبمثل هؤلاء يحسن الإقتداء { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } . [ سورة الأنعام ، الآية : 90 ]
2- أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصم الله ، وهم الأنبياء والملائكة.
وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم معرضٌ للخطأ ، فنعذره حين يجتهد فيخطئ ، ولا نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم .
ولقد كان سلف الأمة – رحمهم الله – يستحضرون هذا الأمر ، ويفقهونه حقَّ الفقه .
قال الإمام سفيان الثوري: ( ليس يكاد يثْبُتُ من الغلط أحد ).
وقال الإمام أحمد: ( ومن يعرى من الخطأ والتصحيف !! ).
وقال الترمذي: ( لم يسلم من الخطأ والغلط كبيرُ أحدٍ من الأئمة مع حفظهم ).
وقال ابن حبان : ( وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وابن جُريج، والثوري ، وشعبة ، لأنهم أهل حفظ وإتقان، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في رواياتهم ).
3 - أن ندرك أن الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة :
لذلك يجب أن تتسع صدورنا للخلاف بين العلماء ، فلكل واحد منهم فهمه ، ولكل واحد إطلاعه على الأدلة ، ولكل واحد نظرته في ملابسات الأمور ؛ فمن الطبيعي أن يوجد الخلاف بينهم ، وانظر ما ذكره كثير من العلماء في هذا الموضوع ، ككتاب (( رفع الملام عن الأئمة الأعلام )) ، لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - .
4- أن نفوت الفرصة على الأعداء، و ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم، وأن ندافع عن علمائنا،لا أن نكون من وسائل تمرير مخططات الأعداء من حيث لا يشعرون
5 - أن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن، و ألا نسيء الظن فيهم ، وإن لم نأخذ بأقوالهم.
حقاً أننا لسنا ملزمين بالأخذ بكل أقوال العلماء،لكن ثمة فرقاً كبيراً بين عدم الأخذ بقول العالم- إذا كان هناك دليل يخالفه - الجرح فيه ، فلا يعني عدم اقتناعنا برأي العالم أن نستبيح عرضه ، ونأكل لحمه .
ولقد كان الإمام الشافعي – رحمه الله - يقول: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) ونُقل ذلك عن غير واحد من الأئمة ؛ فقد كانوا يُدركون أنه ليس أحد متعبداً بقول عالم ، فقد يكون قوله مخالفاً للدليل ، لأنه لم يبلغه – مثلاً – لكن تبقى حرمةً العالم مصونة ً من الطعن والوقيعة .
قال عمر - رضي الله عنه- : ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ).
6 - أن ننتبه إلى أخطائنا وعيوبنا نحن، وننشغل بها عن عيوب الناس عامة، وعن أخطاء العلماء خاصة.
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ****** إن عـبت منهـم أمورا أنت تأتـيها
وأعظـم الإثـم بعـد الـشرك نـعـلمه ****** في كل نفس ؛عماها عن مساويها
عـرفـتها بعـيوب الناس تــبـصرهـا ****** منـهم ولا تبصر العيب الذي فيها
وما مثل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوما ليوهنها ******** فلم يضرها ، وأوهى قرنه الوعــــــل
أو كما قال الآخر :
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ******** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
قد يقتصر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله ؟!
أعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ******* ينفعك علمي ، ولا يضررك تقصيري
--------------------------------------------------------------------------------
ثالثاً : السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .
بعض الناس اليوم وقعوا بين إفراط وتفريط، ففريق يطعنون في العلماء ويتهمونهم كلما قالوا شيئاً.
وفريق آخر ، إذا سمعوا عالماً أو طالب علم يُبين الحق بدليله قالوا : إنه يقع في أعراض العلماء ، ويُحدث فتنة .
وكلا الفريقين مجانب للمنهج الصحيح في هذا الباب .
فما المنهج الصحيح الذي نجمع فيه بين بيان الحق وحماية أعراض علمائنا , غير ملتزمين بقولٍ إلا إذا كان مقروناً بالدليل ؟
يمكن توضيح ذلك المنهج كما يلي :
1 - التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء .
فقد ُتشاع عن العلماء أقوال ؛ لأغراض لا تخفي . فيجب التأكيد مما يُنقل عن العلماء ،فقد يكون غير صحيح ، ولا أساس له ، وكم سمعنا من أقوالٍ نُسبت إلى كبار علمائنا، ولما سألناهم عنها تبين أنمهم بُراءُ منها . هناك غير قليل من الناس يجلس أحدهم في المجلس ويقول: الشيخ فلان - هداه الله- وفيه كَيْتَ وكيت . فتسأله : لماذا ؛ فيقول : إنه يقول : كذا وكذا . حتى إذا ذهبت إلى ذلك الشيخ وسألته عن صحة ما نُقل عنه ؛ قال : والله ما قلت شيء من هذا !
إذن، فالتحقيق من صحة ما يُعْزي إلى العالم يُعد خطوة أولى في المنهج الصحيح، الذي نحن بصدده.
2 – أن نعرف أن عدم الأخذ بقول العالم ، وأن مناقشته والصدع ببيان الحق، يختلف تماماً عن الطعن في العلماء، فالفرق بين الأمرين عظيم جداً . يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى ، إن لم توافق الدليل، ولكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.
3 - أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله - جل وعلا -
فيستحضر الإخلاص،ويحذر من الأغراض الشخصية العارضة كالهوى، والتشفي،وحب الظهور،{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }.[ سورة الكهف ، الآية : 110 ]
ولينتبه فإنه قد يكون ردُّه في الأصل بإخلاص وتجرد لله ، ثم تدخل عليه أعراض يوسوس إليه بها الشيطان ، من حب البروز وغيرها من الآفات المفسدة للنية .
4 - الإنصاف والعدل :
ا المتأمل في واقع بعض طلاب العلم يجدهم إما أن يأخذوا كل ما يقوله العالم، أو يردُّوا كل ما يقوله، وهذا خلاف ما أمر الله – تعالى – به من العدل والإنصاف ، قال تعالى : { ولا يَجْرمَنَّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [ سورة المائدة ، الآية : 8 ]
والعدل الإنصاف هو منهج أهل السنة والجماعة ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ).
والعدل والإنصاف مع العلماء يتضمن أموراً :
أ- الثناء على العالم بما هو أهل له .
ب- عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه , فإذا وقع أحد العلماء في خطأ، وأردت أن تبين خطأه، فلا تذهب تُحصي جميع أخطائه ، وتستطيل في عرضه ،وإنما احصر حديثك في القضية التي تريد بيان الحق فيها ، ولا تتجاوزها ، وإياك أن يستجرك أحد إلى تجاوزها .
5 - أن نسلك منهج رجال الحديث في تقويم الرجال :
إن على منْ يتصدى لبيان الحق في مسألة أخطاء فيها أحد العلماء ، أن يسلك المنهج الدقيق المنصف الذي رسمهُ رجال الحديث - رحمهم الله - وثمة رسالة جملية مختصرة ،صغيرة في حجمها، كبيرة في قيمتها ، تبين هذا المنهج ، وعنوانها :منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم/ للشيخ : أحمد الصويان . فأحيل القارئ الكريم إليها , ففي النهر ما يعني عن الوشل .
6- أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين : خطأ في الفروع ، وخطأ في الأصول .
* أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية ، يجوز فيها الخلاف ، فإذا أخطاء فيها العالم ؛ بيّناّ خطأه فيها ، بدون تعرض لشخصه .
* وأما مسائل الأصول ( العقيدة )، فيبيَّن القولُ الصحيح فيها ، ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته ، بدون إفراط ولا تفريط.
يقول شيخ الإسلام : ( أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض ) ، فالمبتدعة يأكل بعضهم لحوم البعض، وكل فئة تغمط الأخرى حقَّها،وأما أهل السنة فينصفون ،حتى مع الكفار،فضلاً عمَّن كان مخطئاً خطأ ً دون الكفر .
إن بعض الناس اليوم يميلون ميلا ً عظيماً عن طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب،فقد
استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة محزنة، أوهي أن نفراً اتهموا احد الدعاة بأخطاء في العقيدة، ولم يقتصروا على بيان أخطائه العقدية ، بل مضوا يذكرون عنه قصصاً شخصية في بيته : عن زوجته ، وعن بنته ، وعن أولاده . سبحان الله ! لماذا الحديث عن وزوجته ابنته وأولاده؟! ما الداعي للطعن في شخصه ؟! حقاً أننا لا نحث على السكوت عن الخطأ ، ولكننا ندعو إلى الأسلوب الصحيح ، لبيان الحق ، وتوضيح الخطأ .
7- أخيرا ، إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ- سواء في الأصول أو الفروع، لعله يرجع إلى الصواب ، فهذا أولى .
لأن الحق هو المقصود، وفي رجوع المخطئ بنفسه عن قوله وإعلانه ذلك للناس خير كثير؛ لأنك إن رددت عليه ، وبينت الحق ؛ فقد يقتنع نصف الناس، وإما إذا رجع هو بنفسه بعد مناصحتك له ، وتخويفك إياه بالله ؛ فسيقتنع كل الناس الذين أخذوا بقوله .
ومما يذكر في هذا المقام أن اثنين من العلماء اختلفا في مسألة ، فلم يذهب كل واحد منهما يخطئ صاحبه عند الناس ، بل اجتمعا وتناظرا ، فكانت نهاية المناظرة أن أخذ كل واحد منهما بقول الآخر ؛ لأن مرادهما هو الحق .
--------------------------------------------------------------------------------
وفي الختام ...
هناك أمور لابد من بيانها :
أولاً - أننا لا ندعو إلى تقديس الأشخاص ، أو التغاضي عن الأخطاء ، أو السكوت عن الحق. بل ندعو إلى المنهج الصحيح في بيان الحق، بدون انتهاك لأعراض العلماء. فلا إفراط ولا تفريط ،ولا غلو ولا جفاء.
ثانياً - انطلقت في الأيام الماضية دعوى الإجماع ، ولقد وردتني أسئلة كثيرة تقول : فلان يخالف إجماع العلماء، فلان يخالف ما أجمع عليه العلماء ، يُريد أن يحدث فتنة.
وأقول لهؤلاء : إن الإجماع ليس بالأمر اليسير ، هناك فرق كبير جداً بين الإجماع والاجتماع.
ا لإجماع - كما بينه العلماء- : هو أن يُجمع علماء الأمة المعتدُّ بهم في عصر من العصور على مسألة من المسائل . ولو خالف واحد منهم ؛ لم ينعقد الإجماع.
ا ليس لإجماع إجماع علماء بلد فقط ، بل هو إجماع علماء الأمة المعتد بهم في مشارق الأرض أو مغاربها .
إذن ، فالإجماع له ضوابط و شروط، وليس أمراً هيناً . ولذلك قال بعض العلماء : أن الإجماع لم ينعقد بعد الصحابة .
فليتريث الذين يدعون الإجماع ، وليعلموا أن العبرة ليست بكثرة القائلين بقول ما وإنما العبرة بصحة القول المقرون بالدليل .
ثالثاً - قد يفتي بعض العلماء بفتوى لها أسبابُها، فيخالفهم فيها آخرون من العلماء أو طلبة العلم، فيُطْعن ُفي المخالف ، ويُتّهم بإثارة الفتنة ، وحب الظهور ، وسرقة الأضواء ، وقلة العلم ....إلخ .
وهذا تصرف غير سليم ، فعلينا أن ننتبه ، في هذا الأمر ، لما يأتي :
( أ ) أن كلا ًّيؤخذ من قوله ويُرد ، إلا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما جاء به.
(ب) أن المخالفيِن علماءُ، كما أن المخالَفين علماءُ، فيجب تقدير المخالفين، وحفظ أعراضهم، وعدم
أكل لحومهم .
( ج ) أن نعلم أن الرجال يعرفون بالحق ، وليس الحق يعرفُ بالرجال.
( د ) أن نتثبت من صحة الفتوى واكتمال شروطها عند كل فريق من الفريقين ، فالمهم هو صحة
الفتوى، واكتمال شروطها ، بغض النظر عن الفريق الذي صدرت منه من الفريقين .
( هـ ) أن مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الخلاف،ولقد وقع الخلاف بين الصحابة في فهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قُريضة )) . رواه البخاري .
ووقع الخلاف بينهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لكن ذلك لم يؤد بهم إلى الفتنة وطعن في الأعراض .
فيجب إذن ، ألا نضيق على أنفسنا ، وأن تتسع صدورنا للخلاف في المسائل الاجتهادية .
( و ) أن المخالفة ليس خطأ ، ولا عبرة هنا بصغر سنّ المخالف أو كبره ، بل العبرة بتوافر شروط
الفتوى ، ولم يزل العلماء قديماً وحديثاً يُخالف صغيرهم كبيرهم، وقد يكون الحق مع الصغير .
ومن أمثلة ذلك أن ابن تيمية- رحمه الله - خالف علماء بلده ممن هو أكبر منه سناً، وثبت أن الحق معه .
• ومن الأمثلة – كذلك – أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – حفظه الله - خالف سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – في حياته في فتوى أفتى بها ، ولم يقل الشيخ محمد : من أنت حتى تخالفني ، وهذا دليل على رسوخ علم الشيخ محمد – رحمه الله - وما قال الناس ذلك . وكان الراجح هو قول الشيخ عبد العزيز .
رابعاً - لماذا تبرز أخطاء العلماء أكثر من غيرهم ؟
السبب في ذلك هو أن العلماء هم صفوة الأمة ، وخيارها وقدوتها ، وأحمدُها سيرةً ، فإذا وقع منهم خطأ كان واضحاً جلياً ؛ لأنه بمثابة النقطة السوداء في صفحتهم الناصعة البيضاء . ولذلك قيل: زلّةُ العالم مضرب بها الطبل.
وما مثلُ العالم إلا كمثل الثوب الأبيض، إذا أصابته نقطة - مهما كان صغرها- برزت فيه وظهرت.
ومن هنا وجب على العلماء أن ينتبهوا لذلك الأمر؛ بأن يتفقدوا أنفسهم ، ويتفطنوا لأعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم . كما وجب - كذلك - على الناس ألا يضخموا هفوات علمائهم ولا ينفخوا فيها .
خامساً - احذر من الذم الذي يشبه المدح :
بعض الناس يُسهب في الثناء على شيخ من المشايخ ، ويخلع عليه من نعوت الفضل وألقاب التوقير شيئاً كثيراً ، ثم يقول – مثلا ً- : ( لكن الشيخ حبيب ) أو طيب القلب ، وهو يقصد أنه قد يُستغفل ، أو غير ذلك من الأساليب المغلفة بغلاف المدح ، وهي للتَّنقُّص . وإن على هؤلاء الذين يستخدمون هذه الأساليب، أن يخافوا الله ويتقوه ، وأن يدركوا خطورة ما يقولون ، وأن يتوبوا إلى الله، ويستغفروه ، وإن يعتذروا ممن انتقصوه .
سادساً : أن من أساء الأدب مع العلماء فسيلقى جزاءه عاجلاً أو آجلاً .
قال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم : ( وصنف كتباً كثيرة ، وناظر عليه ، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب . بل فجج العبارة، وسب وجدع فكان جزاءه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ، ونفروا منها ، أحرقت في وقته ).
والواقع يشهد أن الذي يسب العلماء، ويتجرأ عليهم ، يسقط من أعين العامة والخاصة.
ويقول الحافظ ابن رجب: ( والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس ، وتواريخ العالم ؛ وقف على أخبار من مكر بأخيه ، فعاد مكره عليه، وكان ذلك سببا لنجاته وسلامته ) أي : سبباً لنجاة الممكور به وسلامته .
سابعاً : على العلماء وطلاب العلم الذين يبتلون بالتعريض للطعن ، وكلام الناس فيهم ؛ عليهم أن يصبروا ويتقوا الله ، وأن ليعلموا أنهم ليسوا أفضل من الأنبياء والمرسلين، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسلم من الكلام فيه ، وطعن حتى في أهله ؛ في حادثة الإفك .
فللعلماء أسوة في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فليقتدوا به ، وليعلموا أن العاقبة للمتقين ، قال تعالى : { قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } [سورة يوسف ، الآية :90 ] .
وقال – جل وعلا - عن موسى : { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }. [سورة الأعراف ، الآية : 128 ]
وقال – سبحانه - : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }. [سورة فاطر ، الآية : 43]
وصدق من قال:
ولـست بنـاج ٍ من مقــالــة طاعـن ****** ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما ****** ولو غاب عنهـم بين خافـيتي نـسر
ثامناً - احذر من التعميم : إن قضية التعميم في الأحكام قضية خطيرة جداً ، وقد وقع كثير من الناس في هذه الظاهرة التي تدل على قلة الوعي وعدم الإنصاف ، ترى أحدهم يقول : العلماء فعلوا ، والعلماء قالوا ، والعلماء قصروا ، والعلماء غلطوا – بهذا التعميم - . والتصرف السليم أن يُعمَّم في الخير ، ولا يُعمَّم في الشر ، ومن فضل الله تعالى أن الرحمة تعم كالمطر ، والعقاب يخص { وكلا أخذنا بذنبه } ومن كرمه سبحانه أن الرحمة تشمل خليط الأخيار – وإن لم يكن منهم - : (( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )) . ولقد اطلع الله على أهل بدر فقال : (( اذهبوا مغفوراً لكم )) متفق عليه . وأما العقاب: {ولا تزر وازرة وزر أخرى }. [ سورة الأنعام ، الآية : 164 ].
تاسعاً - أخيراً أقول للمتحدثين في العلماء: اتقوا الله، توبوا إلى الله، أنيبوا إلى الله ، واثنوا على العلماء بمقدار غيبتكم لهم، و إلا فأنتم الخاسرون ، العاقبة للمتقين . وما مثلكم إلا كما قال الأول :
كناطح صخرة يوما ليوهنها ****** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
وقول الآخر :
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه ****** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
فنتبهوا، وصححوا المنهج ، وانظروا في العواقب،واحفظوا حرمات الله ، يحفظكم الله، ويغفر لكم.
هذا ، أسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعيذنا من فتنة القول والعمل . والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
--------------------------------------------------------------------------------
هذا الكتاب
* إلى كل من ابتلي بالوقوع في العلماء فخط قلمه ُ ونطق لسانه .
* إلى الذين جعلوا الطعن في العلماء العاملين سبيلهم فاتهموهم في مقاصدهم وحملوا ألفاظهم مالا تحتمل واجلبوا عليهم بالخيل والرجْل ِ .
* إلى الذين صرفوا همتهم وأنفقوا طاقتهم في مواجهة أهل العلم والشغب عليم .
* إلى كل هؤلاء نقول : أولا:
اعلموا هداكم الله – أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة .
ونقول ثانياً :
يا نطح الجبل العالي ليثلمه ******** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
ونقول ثالثاً وأخيراً :
إن الأمة تثق بعلمائها ولن تقبل الطعن فيهم من كل حاقد متربص .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين . آمين
الناشر